تتبدّل أحوال دول ومجتمعات، لاندلاع حروبٍ فيها تصنع مصائب، وتُحطِّم بقايا أمل وسكينة. لكنّ مهرجانات سينمائية دولية كثيرة تستمرّ في تنظيم دورات سنوية في مواعيدها الثابتة، والتغيير غير دائمٍ وغير مُربك، إذْ تتراوح مدّته بين يوم وثلاثة أيام على الأكثر (كلّ مهرجان يختار يوماً في شهرٍ لافتتاح كلّ دورة، ما يعني تبدّلاً طفيفاً في التواريخ). تحافظ تلك المهرجانات على تقاليد لها، رغم أنّ غالبية المُصنّفة فئة أولى بينها تتخلّى عن بعض تلك التقاليد، توفيراً للمال، أو مراعاة للبيئة. وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية أفضل الأدوات المستخدمة في تقديم كلّ ما يرغب فيه ضيفٌ (سينمائي/سينمائية في مختلف المهن، غالباً)، وناقد وصحافي/صحافية، وطبعاً مُشاهِدون ومُشاهِدات. تلك الوسائل والمواقع تُلغي حِمْلاً ثقيلاً، يتمثّل بكاتالوغ (بعضها يبلغ مرتبة المُجلَّد، كحال "مهرجان برلين السينمائي" في أعوامٍ/دورات سابقة) وكتيّبات ومنشورات، وهذا معروفٌ، أقلّه منذ أزمة كورونا، فما من كاتالوغ، باستثناء "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي"، وإنْ بحجم صغير؛ وما من منشورات ومطبوعات، باستثناء ما توزّعه شركات/رعاة كترويج إعلاني/دعائي لها، وفي "كارلوفي فاري" وفرةٌ منها دائماً، رغم أنّ غالبيتها الساحقة باللغة التشيكية.
"مهرجان كارلوفي فاري" حريصٌ على بعض تلك التقاليد: حقيبة تضمّ كاتالوغاً وبرنامج عروض صحافية، منشورات دعائية، مطبوعات صادرة عن مؤسّسات صحافية مهتمّة بالمهرجان ترويجاً لها، غالباً. هناك أدوات تجميل للنساء (توزّع على النقاد والصحافيين والصحافيات جميعهم)، ومشروبات كحولية، وحلويات محلية. هذا كلّه يترافق وبرمجة أفلامٍ كثيرة في أقسامه المعروفة، وبعضها منضوٍ في فئة التنافس على جوائز (الكرة البلورية وبروكسيما أساساً). انصرافه هذا موزّع، إجمالاً، على مسألتين: بحثٌ دؤوب عن جديدٍ غير معروض سابقاً، وانتقاء بعض "أفضل" المعروض في مهرجاناتٍ أخرى، أو بعض المُثير لجدلٍ ونقاشٍ هنا وهناك، كما في الدورة 59 (4 ـ 12 يوليو/تموز 2025)، إذْ يتردّد، قبل إعلان برمجتها، أنّ "حادث بسيط" للإيراني جعفر بناهي، الفائز بـ"السعفة الذهبية" في الدورة 78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ"، سيكون أبرز الأفلام المختارة في هذه الفئة. وهذا حاصلٌ.
تبدّل أحوال دول ومجتمعات في الشرق الأوسط، واندلاع حروبٌ فيه وحوله تتوقّف غالباً من دون أسس فاعلة تُحصّن التوقّف، ينعكسان سلباً على حركة الطيران المدني، إذْ تُلغي شركاتٌ رحلةً أو أكثر، أو تُغيّر مواعيد أخرى، ما يؤثّر سلباً على ما يُخطِّط له ناقدٌ، قبل أسابيع مديدة من بدء تلك الدورة، فإذا بساعاتٍ طويلة تمرّ، وافتتاح الدورة 59 مُقام في اللحظة المحدّدة، وكلّ شيءٍ في كارلوفي فاري على خير ما يُرام. الوصول بعد ساعاتٍ طويلة من الافتتاح يعني أنّ أفلاماً عدّة معروضة في غيابه، وعلى الناقد أنْ يُعيد برمجة يومياته السينمائية وفقاً للتأخّر غير المقصود، وبعض البرمجة يدفعه إلى انتقاء مواعيد لها مع جمهور، غالبيته تشيكيّ، يأتي المهرجان من مدنٍ مختلفة.
أمّا التعويض عن المعروض (أو بعضه على الأقلّ) قبل الوصول، فيكمن في "مكتبة فيديو أونلاين" التي يُتيحها المكتب الإعلامي للمهرجان للنقّاد والصحافيين/الصحافيات السينمائيين، عشية بدء كلّ دورة، لمدّة تنتهي مساء اليوم الأخير منها. تقليدٌ كهذا يحلّ بديلاً عن مكتبة فيديو واقعية سابقاً، توفّر للمهتمّ/المهتمّة فرصة مشاهدة إضافية على عروض الصحافة والجمهور. الأفلام التي تضمّها المكتبة (أونلاين) يُمكن مشاهدتها بعد أول عرض جماهيري لها، يحصل بعد ساعات قليلة من عرضها الصحافي صباح كلّ يومٍ، خاصة تلك المختارة في مسابقتي الكرة البلورية وبروكسيما. مع هذا، هناك أفلامٌ غير موجودة في المكتبة، لأسبابٍ مرتبطة بخيارات شركات التوزيع والإنتاج، أو بقرارات المخرج/المخرجة، كفيلم الافتتاح، الوثائقي "علينا أنْ نؤطّره: محادثة مع يري بارتوشكا"، للتشيكيّين ميلان كوشينكا وجاكوب غوراسيك.
التأخّر في الوصول يحصل لأول مرّة، بسبب الحرب الإسرائيلية المفتوحة منذ "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، والمنتقلة من غزة إلى بقاعٍ فلسطينية أخرى، ثم إلى لبنان ودول الجوار، وأخيراً إلى إيران. هذه الحرب تُربك حركة الطيران المدني، وتفرض اختباراً سيكون الأول في الوصول إلى مهرجانٍ بعد ساعاتٍ طويلة على افتتاح دورته الأخيرة.
اختبارٌ كهذا يتمنّى الناقد ألا يعيشه مُجدّداً.
