تكمن أهمية عبدالرحمن منيف الأساسية، إلى جانب ما تميز به أدبه الروائي، في أنه كان إنسانًا حرًا. كان في كل سلوكه الشخصي والسياسي حريصًا على استقلاليته، ولذلك لم يخضع لضغط هنا وإغراء هناك، ولم يقاتل بغير سلاح النقد من موقعه الديمقراطي المستقل. سنقرأ الآن سيرة هذا الأديب لنكتشف في مسيرته كيف حاول كشف العداء على روح الهوية وعبق التاريخ واغتصاب الأرض والجنسية باسم القانون. وما هي قصة طرده من العراق؟ ولماذا نُزِعت منه الجنسية السعودية وحُظِرت كتبه؟ ستقرأون الآن عن وطني بلا وطن.
دعني، عزيزي القارئ، أقص عليك القصة من البداية لنتعرف على الظروف الاجتماعية التي نشأ، بها منيف. والد منيف كان سعودي الجنسية، ويتاجر في القوافل التي ترحل كثيرًا إلى الشرق الأوسط، وبنى المنازل في سورية والأردن إلى جانب منازله في السعودية. وكانت أمه عراقية من بغداد. تزامنت ولادة منيف مع الرخصة التي منحت للولايات المتحدة الأمريكية للتنقيب عن النفط وفق معاهدة مع السعودية. هذه الواقعة كان لها التأثير الكبير؛ لأن مجيء الأمريكيين أعلن القضاء على العالم الذي كان يخوّل للتجار مثل أبيه التجول بحرية في البلاد العربية، فلا تمنعه الحدود ولا تقلقه السياسة. وقد توفي والده بعد أيام من ولادته، وبقيت الأسرة في الأردن.
حيث ترعرع فيها على يد جدته لأمه العراقية، وأخذ إخوته بتجارة أبيه لتقديم المساعدة للأسرة، وكان منيف حينها ولدًا صغيرًا، حيث ذهب للكتّاب للدراسة الدينية على عادة الأطفال العرب، قبل أن يلتحق بمدرسة ابتدائية بجوار مقر "غالب باشا" الرئيس الذي كان يدير أمور السلطة الهاشمية. فالأوضاع السياسية فيها خلفت آثارها على منيف، ومن الذكريات الأولى اغتيال السيد غازي ملك العراق سنة 1939م، والتعاطف الشعبي مع المساعي ضد الاستعمار البريطاني في الأردن خلال الحرب العالمية الثانية. وقد شاهد منيف بعينه الحرب الفتاكة بين العرب وإسرائيل سنة 1948م، والمصائب المفزعة التي حلت بالشعب الفلسطيني على أيدي القوات الصهيونية. فهذه الوقائع والأحداث خلفت أثرًا عميقًا في عقليته وذهنه، وخلال العطلة الصيفية كان يقضي أيام إجازته في المملكة العربية السعودية مع أسرة أبيه فيها.
عبدالرحمن منيف كتب عن أسمى الأشياء: الحرية والكرامة والتحضر، فضلًا عن إعلائه من شأن الصمود والثبات على المبدأ، وتقديسه لحقوق الإنسان، وتقديره لقيمة الكلمة ومعنى الكلمة. حيث مثلت كل رواية من رواياته لوحة إنسانية اجتماعية، وعكست في جزئيتها فكرًا متوقدًا، وخيالًا مترعًا، ونفسًا ملحميًا. وتحدث في رواياته عن كل شيء، حيث نسج الحدث من خيوط التاريخ، وأسبغ عليه حلة الخيال. كان يتطلع إلى لب الأشياء وإلى ينابيعها لمغالبة ما يحيط بالوطن والشعب والأمة من العواطف. حاول أن يوضح الصورة التي يمر بها الشعب العربي، عسى أن يخفف الصدمة عن الكثيرين، وعسى أن يتعاون الجلاد مع الضحية في سبيل رؤية جديدة يمكن أن تكون لبنة في بناء جديد يتعايش مع متطلبات العصر الذي نعيش فيه.
