استيعاب الواقع

منذ ٧ ساعات ٣٦

حتى اليوم، تبدو العبارة التي كان يرددها النقد العربي، عن أنَّ على الروائي أن تكون لديه القدرة على استيعاب الواقع، مبهمة تماماً. إذ لم يتمكن أحد من أن يشرح للجمهور، أو للكتّاب أنفسهم، كيف يمكن استيعاب الواقع. والمشكلة الأكبر هي إذا كان الناقد نفسه عاجزاً عن فهم الواقع المعني، أو أنّه يفهم الواقع بحسب موقفه السياسي أو الأيديولوجي حصراً.

فما الواقع؟ وما الشكل المناسب لاستيعابه؟ إذ يُفترض هنا أنَّ الرواية وعاء حكائي، أو خطابي، أو فكري، أو جمالي أيضاً، يستطيع أن "يستوعب" حجماً ما، أو كياناً، اسمه الواقع.

ومصدر الغموض في الحقيقة هو هذه المفردة البسيطة بالضبط: "الواقع". فما الواقع؟ وكيف تستطيع رواية كُتبت عن زمنٍ ماضٍ، حتى لو كنا نتحدث عن فارق سنة واحدة، أن تكون قد استوعبت الواقع، أو لم تستوعبه؟ كيف يمكنك استيعاب الواقع؟ وما الشروط اللازمة لمنحك شهادة المنشأ والجودة في هذا الخصوص؟ هل يستوعب الروائي الواقع في شكل الرواية، أي في التجديد الفني، أم في مضمون النص؟

هل يستوعب الروائي الواقع في شكل الرواية أم في مضمون النص؟

وبسبب هذا الغموض، وكذلك بسبب قوة الدوافع التي جعلت العبارة السابقة ذات ثقلٍ أخلاقي ووجداني وضميري، أُرغم الكتّاب - بصورة ما - على الانصياع للمطالب التي صاغها النقد في العبارة، ودفعت نحوها السلطات الحزبية خصوصاً. فإن كثيراً من النصوص الروائية التي كُتبت تحت وهج هذه الدعوة، لم تستطع تجاوز المناسبات، أو بدت وكأنّها وثائق اجتماعية أو تاريخية.

لكن المفارقة تكمن في القراءات النقدية؛ إذ لا توجد قراءة نقدية واحدة لرواية جديدة تُعيد العناصر فيها إلى الواقع، بل تفعل العكس. ولكي نقرأ الرواية بعمق، لا يمكن إلا أن نعتبر أن الشخصيات الواقعية تمثيل لمسار أو فكرة أو رمز، أي أن تخرج من جلدها الواقعي الذي نرى فيه الأشخاص الذين نعرفهم كأشخاص، لا كرموز، وتصبح شخصيات أخرى. أين الواقعي هنا؟ الواقعية هي أن الروائي يستمد عناصر الرواية من البشر، والحيوانات، والنباتات، والجمادات في الواقع؛ لا توجد رواية تستطيع التملص من هذه المراجع. والتعديلات التي يُجريها الكتّاب على تلك العناصر، مثل المخلوقات الغريبة في رواية "أليس في بلاد العجائب" أو الرواية العجائبية، إنما هي تعديلات على العناصر الواقعية، أو على أجزاء منها.

غير أن النقد كان يشير إلى منحىً آخر، يتعلّق بالفهم الاجتماعي والسياسي لمرحلة ما من المراحل التاريخية التي تعنى الرواية بسرد وقائعها، أو الإشارة إلى تلك الوقائع. وكانت أبرز المشكلات أمام هذا الرأي هي التزامات الناقد الفكرية والسياسية؛ فالمطلوب من عبارة "استيعاب الواقع"، فهمه بحسب هذه النظرية السياسية التي يعتنقها الناقد. ولكن هذا الروائي يرى الواقع بأدوات وفهم يختلفان عن رؤية الناقد، فما العمل إذا كانت الرواية جيدة، وكانت رؤية الواقع مختلفة؟

وإذا ما أخذنا الواقع السوري مثالاً، فمن من الروائيين السوريين استطاع استيعاب واقع سورية في الحرب، أو اليوم؟ يمكن للنقد أن ينحاز إلى جانب أحد الروائيين، بينما يتحتم على الواقع أن يعلن قبول جميع الروايات التي حازت مجد هذا الاسم.


* روائي من سورية

قراءة المقال بالكامل